القائمة الرئيسية

الصفحات

عبد الحفيظ مريود يكتب





رؤيا
 عبد الحفيظ مريود

دمعتان على قبر الحبيبة
 رجلٌ حصيفٌ من الجنوبيين، فى جوبا، قبل الإستفتاء بعام واحدٍ، قال لى "إتفاقيةُ نيفاشا هى إتفاقيّة للإنفصال، صُمّمتْ لذلك، فلماذا تنبحُ الحكومة حول خيار الوحدة، وتدّعى العمل على جعلها جاذبة؟". ضمن ما يشقُّ قلبَ المرء، فى موكبٍ من مواكب ثورة ديسمبر، فى شارع الأربعين كانَ شابٌ لطيف يسألُ فتاةً تضعُ اللثام، فلا يبينُ إلّا عيناها، جبينُها وبعضُ خصلٍ طائشات، عن لماذا خرجتْ هى – تحديداً – فى هذا الموكب. كان صوتُها مشروخاً "عشان دى الحكومة الجوّعت النّاس، وعملتْ حاجات كعبة، فصلتْ لينا بلدنا وقسّمتنا ودايرة تفرتق السّودان". حديثها سيفٌ يشقُّ قلب الرّجل الصّلد. لم تعرفِ الفتاة الجنوب، هذا طبيعىٌّ، وقد مضى على ذهابه عشرة أعوام، إلّا قليلاً، حينها. لكنَّ حزناً عميقاً فى صوتها وصراعاً يجعلانك توقنُ أنَّ الحكومة تلك فعلتْ شيئاً قبيحاً جدّاً. وبالنّسبةِ لى – شخصيّاً – فإنَّ حكومةً تخرجُ ضدَّها كلُّ أولئك الصبايا الجميلات، ونساء بحرى الرّيّانات، لهى حكومة حمقاء يجبُ أنْ تذهبَ فوراً.
 الرّجلُ الجنوبىّ الحصيف سبق واطّلعَ على غيب نيفاشا الذى هو شهودٌ لكلّ ذى عقل. جيشان، بنكٌ واحد بنافذتين، دستوران، حكومتان، شعبان...ماذا تبقّى من السُّودان الوحد لتقدلَ حكومة الإنقاذ ملوّحةً بالوحدة الجاذبة؟ دعونا نؤسّس – يقول الجنوبىّ الحصيف – لجوارٍ حَسَنٍ، بلا أحقاد. على السطح تطفو قصّة الأحقاد التى إمّا أنْ تكون الحكومة الإنتقالية واعيةً لها تماماً، مثلما كانتِ الإنقاذ تعى بأنَّ الجنوب سيذهب وفقاً لنيفاشا، أو تكون غير واعية، ومستغفلة أو غافلة، وهو ما سيجعلها أقلَّ جرما من الإنقاذ، ويخفّف عنها النّهضة إلى مسؤولية هى ليست أهلاً لها، حسنُ النوايا.
 فقد بدا واضحاً أنَّ الإسلاميين دخلوا فى الفصل الثانى من المسرحيّة العبثيّة للسياسة فى السُّودان. وهو أمرٌ متوقّع. طالتْ نشوةُ الإنتقالية أو قصرتْ، فإنَّ الإسلاميين سيأتون. ليس كمؤتمر وطنىّ أو شعبىّ. ربّما عبرهما، ولكنْ سيأتون فى أشكال عديدة، وهم المهَرَةُ فى التزيّىّ بالمختلف من الأزياء على طول التأريخ السياسىّ السُّودانىّ، والأكثر تنظيماً، والأعرف فى التعامل مع الأزمات. وأىّ تقليلٍ من شأنهم، فقط لأنَّ حكومتهم سقطتْ، هو جهلٌ فادحٌ بموازين القوى. ولم تكنْ أحاديث ياسر عرمان ومنّاوى بضرورة استيعابهم – الوطنيين منهم والصّالحين على الأقلّ – إلّا لأنَّ الرّجلين يعرفان اللعبة السياسيّة. حتّى أطروحة د. الشّفيع خضر، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعىّ السُّودانىّ، المفصول، يجبُ أنْ تُقرأ من هذه الزّاوية.
 بدأت تحرّكات الإفطارات الرّمضانيّة. سيتمُّ إعتقالُ ستين شخصاً، وفقاً لإزالة التّمكين، أو مائتين. سيخرجون وستبدأ الموجاتُ الأخرى متتالية من حراك الإسلاميين. سيجسّون الوضع، متحسّسين مواضع القوّة والضّعف لدى خصومٍ كانوا يعاركونهم طوال ثلاثين عاماً. وستبدأ الإنتقالية متسارعة الخطى لإرضاء الواقفين خلفها: أمريكا، إسرائيل، الإمارات، وربّما السّعودية. مصر ليستْ واردةً ههنا، لأسباب فنيّة بحتة. تعديلات القوانين، تعيينات المطلوبين فى المواقع المهمّة، إعلان الإنحيازات الإقليميّة والدّولية اللازمة، تأجيلُ ما هو مطلوب من الثوّار وتهدئة نفوسهم، تشكيل جهاز الأمن الدّاخلىّ، وهو الأهمّ فى المرحلة القادمة، لأنَّ اللعب سيصبح خشناً قليلاً.
 كلُّ المطلوبات التى تسرّعُ الإنتقاليّة خطواتها هى نيفاشا الجديدة. وذلك لأنَّ ثمّة مشروعاً لن يمرَّ مرورَ الكرام يتوجّبُ حمايته. وحين يكونُ الإسلاميين قد نظّموا خطواتهم، سيكونُ على أجهزةٍ أعتى من لجنة صلاح منّاع أنْ تتعاملَ معهم، وهو ما سينقلنا إلى الفصل المهم من المواجهات التى غالباً ما تكون دامية. لا سيّما فى وجود استقطابات حادّة على أصعدةٍ أخرى، دارفور، المشهد التشادىّ الجديد، الجبهة الشّرقيّة، والأزمات الإقتصاديّة الخانقة. الملعب تتمُّ تهيئته للعبة كبرى، ستضطرُّ فتاة موكب الأربعين تلك، ذات الخصلات المتطايرة، معه، أنْ تذرف دمعتين، وتوقد شمعتين. 

تعليقات

التنقل السريع